
الساعة الآن التاسعة وسبع وخمسون دقيقة مساءً في باريس. عدت إلى البيت منذ دقائق بعد يوم طويل من العمل على مشروع الدكتوراه في تاريخ الفن، حيث أوثّق التجارب الفنية للنساء المهاجرات من منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا
اليوم، الأربعاء، التاسع عشر من فبراير، فتحت أجندتي لأتفقد المهام العاجلة فوجدت جملة مدونة: « الفن على بالي – دعوة مفتوحة للتقديم. » وأسفلها ملاحظة: « عليكِ الاطلاع على الكتاب قبل إرسال اقتراحك الفني. » ألقيت نظرة سريعة على قائمة التزاماتي لهذا الأسبوع: العمل على بحث الدكتوراه، التواصل مع الجامعة، التنسيق مع الفنانات، الطبخ، تنظيف المنزل الذي تبلغ مساحته 15 مترًا مربعًا، إنجاز بعض المشتريات، إنهاء وإرسال ملف طلب تمويل لمشروع فني، الاتصال بالعائلة والأصدقاء للحفاظ على الحد الأدنى من الحياة الاجتماعية، وأخيرًا البحث عن زوج تفاديًا للأسئلة والنصائح المبطنة حول اختياراتي المهنية ومدى ذكائها في ضمان حياة مادية مريحة، فإن لم أنجح في تحقيق ذلك، فعلى الأقل يجب ألا أفشل في العثور على زوج يضمن لي هذه الرفاهية، بل ومن الأفضل أن أتزوج وأُنجب أطفالًا يسندونني عند الكِبَر، قبل نهاية الأسبوع أيضًا
وسط كل هذه الالتزامات، لم تكن لدي رفاهية العمل على مقترح فني وإرساله قبل يوم الخميس 20 فبراير، لكن الفنانة المتمردة داخلي، تلك الطفلة التي لم تستوعب بعد أنها على مشارف الثلاثين، شعرت بالإهانة لأن ضغوط الحياة كادت تتغلب عليها، شعرت بالخجل لأنها لم تقرأ هذا الكتاب من قبل، وهي التي تعتبر نفسها نسوية ديكولونيالية متخصصة في تاريخ الفن النسوي، لذلك قررت التورط والتمرد على الوقت وعلى الالتزامات
فتحت كتاب « الفن على بالي: السياسة البصرية لبيل هوكس » للاطلاع على أبرز الأفكار التي يحتويها، فوجدت مقالًا بعنوان: « النساء الفنانات: العملية الإبداعية. » ونظرًا لأن الساعة كانت تشير إلى السابعة مساءً والمكتبة ستغلق أبوابها بعد دقائق، التقطت صورًا للمقال وأعدت الكتاب إلى رفوف المكتبة

في المترو، فتحت الصور لتصفح المقالة
في بداية المقال، تتحدث بيل هوكس عن أهمية رفاهية الوقت والتحكم في الوقت ضمن العملية الإبداعية، وعن أن أغلب النساء الفنانات لا يتمتعن برفاهية التحكم في وقتهن وطريقة سير يومهن، مما يمنعهن من تخصيص الوقت الكافي لحياتهن الفنية. كما تتطرق إلى الضغوطات الاجتماعية التي تحيط بهن، والتي تشمل لومهن على تضحيتهن بحياتهن الشخصية، ودورهن التقليدي كنساء في الزواج والإنجاب على حساب مسيرتهن الفنية
حين اطلعت على تاريخ إصدار الكتاب وجدته عام 1995، وتاريخ اليوم هو 2025، أي مضت ثلاثون سنة منذ إصدار الكتاب، ثلاثون سنة والضغوطات التي تتعرض لها الفنانات النساء لم تتغير. ومع تطور سرعة الحياة الحالية وتغير السياق الاجتماعي، السياسي، التاريخي والجغرافي، أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا بالنسبة للفنانات
وأنا التي أعتبر نفسي جزءًا من هذا السياق، كطالبة دكتوراه مهاجرة في فرنسا، إضافة إلى كوني مصورة فوتوغرافية وفيديو. هذه الأفكار قادتني إلى فكرة طرحتها فيرجينيا وولف في كتابها « غرفة تخص المرء وحده »، والتي تقول إن الكاتبة تحتاج إلى غرفة خاصة بها والقليل من المال لكي تستطيع الكتابة. تساءلت: ماذا تحتاج فنانة بصرية مهاجرة، دائمة التنقل من مدينة إلى مدينة، من بيت إلى بيت، لكي تنتج أعمالًا فنية؟
إحدى الإجابات الواضحة في مقالة بيل هوكس هي رفاهية الوقت. مع إضافة ما اقترحته فيرجينيا وولف حول المكان الخاص والقليل من المال (مع بعض التحفظ على كلمة « القليل »)، نجد أن لدينا ثلاثة عوامل رئيسية: الوقت، مكان خاص للعمل، والمال. وعندما نضيف إلى هذه العوامل أن هذه الفنانة مهاجرة، أي مقيمة في بلد غير بلدها، يصبح الأمر أكثر تعقيدًا
من خلال تجربتي الشخصية وتجارب النساء اللواتي تبادلن معي تجاربهن، أستطيع القول إن العملية الإبداعية تحتاج إلى رفاهية تفكيرية. بمعنى آخر، أن الهجرة بما تحمله من ضغوطات، مثل تجديد أوراق الإقامة، العمل لتوفير المال لإيجار بيت صغير، الدراسة إذا كانت الفنانة ما زالت طالبة، التأقلم والاندماج في المجتمع الجديد، تعلم اللغة إذا كانت لا تتكلمها مسبقًا، حماية نفسها وسلامتها الشخصية، وحقيقة وضعها كمرأة مهاجرة مما يجعلها في وضعية هشة نوعًا ما، مما يعرضها للاستغلال، بالإضافة إلى العنصرية والتمييز الجنسي والعديد من الضغوطات الأخرى، تخلق بيئة صعبة للإبداع

السؤال هنا هو: كيف تستطيع الفنانة المهاجرة أن تجد رفاهية للإبداع في ظل كل هذه العوامل والضغوطات؟
كنت دائمًا أقرأ أن الثورة تولد من الأحزان، وأن الفن يحتاج إلى التراجيديا والحزن والصعوبات والتحديات لكي يظهر بأجمل صورة إبداعية. لكن، هل هذا يمكن تطبيقه بسهولة في الواقع؟
عندما ترددت في العمل على مقترح فني وإرساله، قلت لنفسي: « كل ما أحتاجه هو بضع كلمات وصور، ثلاثون دقيقة من الوقت، وشجاعة المحاولة لإنهاء المقترح وإرساله. » الساعة الآن تشير إلى الحادية عشر وأربع وعشرون دقيقة
عندما نضيف عامل أن هذه الفنانة المهاجرة قادمة من منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا، هل يتغير شيء في سير العملية الإبداعية لها او في احتياجاتها او واقعها الفني؟
هذا السؤال يقودني إلى تاريخ السابع من أكتوبر 2023، الذي يعد تاريخًا محوريًا ومؤثرًا في حياة المهاجرين من هذه المنطقة بصفة عامة. فهذا التاريخ ساهم في بلورة وعي الهوية والانتماء لنا كجزء من هذه المنطقة، وهو ما أصبح يحدد، بشكل مباشر أو غير مباشر، طريقة تعامل المجتمع معنا، وطريقة رؤيتهم لنا بناءً على هويتنا الظاهرة
هذا الوعي بالهوية أثر في حياتنا اليومية، خاصة فيما يتعلق بمسألة الأمان، الذي أصبح مهددًا بشكل أكبر. فمن خلال ملامحنا الظاهرة، مثل لون الشعر الأسود، الملامح العربية، طريقة اللباس، وغيرها، أصبحنا أحيانًا عرضة للمواقف العنصرية، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، وأحيانًا لتعاملات غير إنسانية
لكن تأثير السابع من أكتوبر لم يكن سلبيًا فقط. فإلى جانب العنصرية التي قد نواجهها، هناك أيضًا لحظات تضامن يمكن أن تحدث، مثل إشارة نصر أو ابتسامة من شخص غريب في الشارع بمجرد رؤيته لنا ونحن نرتدي الكوفية الفلسطينية، أو تصفيق وتحيات من امرأة عجوز من شرفة منزلها خلال مظاهرة مؤيدة لفلسطين. هذا التاريخ غيّر الديناميكيات العالمية، وأثر في كيفية تصنيفنا وطريقة تعامل العالم معنا

نترك الثرثرة جانبًا ونعود إلى السؤال الذي ظل قائمًا: ماذا عن سير العملية الإبداعية للنساء المهاجرات من منطقة شمال إفريقيا وغرب آسيا؟ في هذا السياق، تصبح العملية الإبداعية أكثر تعقيدًا. فما بين التحديات اليومية، مثل العنصرية، والضغوط الاجتماعية، وقلة الاستقرار، تتحول الإبداعية إلى معركة مستمرة مع الظروف الاجتماعية والسياسية
قبل أن نواصل، يجب أن أوضح أنني في هذه المحاولة الكتابية لا أسعى لتقديم إجابات محددة لهذه الأسئلة. بل أنا فقط أحاول التفكير بصوت عالٍ، وأعتبر هذه المحاولة الكتابية أولاً كعودة إلى الهوية الأولى والكتابة بالعربية الفصحى، وثانيًا، دعوة مفتوحة للتفكير حول هذه النقاط
من المهم القول إن الفنانات النساء المهاجرات من هذه المنطقة مغيّبات، أو وجودهن قليل مقارنةً بأقرانهن من الرجال في الساحة الفنية المعاصرة الفرنسية. نظرة سريعة على بعض المعارض الفنية المخصصة للفنانين المهاجرين في فرنسا تجعلنا نكتشف الفارق في عدد النساء الفنانات اللواتي يُبرمجن في المعارض الفنية وعدد الرجال المبرمجين. إضافة إلى هذه الفوارق، وفي تسليط الضوء على الفنانات المهاجرات من هذه المنطقة، من الضروري أيضًا الإشارة إلى أن الفنانات المهاجرات يُقتصر عليهن عادةً في موضوعات محددة في المعارض، مثلًا يُطلب منهن غالبًا المشاركة في معارض مخصصة للمنفى، الهوية، أو عن وضعية المرأة وحقوقها وغيرها، كما لو أن أعمالهن دائمًا ما تُستخدم للتجاوب مع الصور النمطية عن هذه المنطقة وعن نسائها
بعد السابع من أكتوبر، تغيرت الديناميكيات الفنية، فأصبحت المعارض للتضامن مع فلسطين والمبادرات الفنية للتضامن مع لبنان ظاهرة متزايدة، لكن في بعض الأحيان كانت تأخذ صورة التضامن « الأبيض »، أي التضامن من أجل عدم الإحساس بالذنب أو من أجل إرضاء الغرور الأبيض الذي يعتبر نفسه الأجدر بالتضامن أو بالكلام عن القضايا. بمعنى آخر، بعض هذه المبادرات لا تحمل في طياتها رغبة حقيقية في تغيير الصورة النمطية أو في تحسين وضعية الفنانين العارضين، أو تفكيرًا طويل المدى يسعى إلى دمج الفنانين المهاجرين بصفة مهنية وجادة في الساحة الفنية في بلد المهجر
في هذه النقطة، نعود إلى نظرية الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز، الذي يعتبر أن الفنان في ما يسمى بالعالم الثالث يحمل مهمة استدعاء « الشعب الغائب » أو « الشعب المفقود ». حسب دلوز، من مهمة الفنان خلق أو استدعاء « الشعب الغائب »، وهو الشعب الذي تحاول الأنظمة المستبدة إخفاءه أو تشويه هويته من خلال سرقة ثقافته وتهميش صوته عبر نشر سرديات مغلوطة عنه وفق تصورات القوى المهيمنة. يعتقد دلوز أن دور الفنان يكمن في الحفاظ على الرواية الأصلية وحمايتها من الضياع لكي تبقى للأجيال القادمة، التي ستستعيد هذا الصوت وتحمل قضيته. الفعل الإبداعي، في نظره، يتحول إلى فعل مقاومة عندما يصبح بديلاً للرواية السائدة، ويخلق فرضيات ومساحات خيالية جديدة تتحدى الروايات المهيمنة

فما هي مهمة النساء الفنانات المهاجرات من هذه المنطقة؟ وما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه أو تقدمه؟
إذا كانت هذه الفنانة تحمل تقاطعية العديد من العوامل في هويتها، مثل الانتماء إلى هذه المنطقة، أي أنها تحمل معها تاريخ هذه المنطقة، وجغرافيتها، وثقافتها، وما إلى ذلك، إضافة إلى انتمائها إلى الهوية الجندرية الأنثوية وما يحمله هذا الانتماء من ضغوطات مجتمعية وتهميش ثقافي وسياسي، فإنها، لمجرد انتمائها إلى هذه الهوية الجندرية، تواجه تحديات إضافية. إذ تُهمَّش بشكل مضاعف: فمن جهة، تُهمَّش داخل مجموعتها الاجتماعية من المهاجرين لكونها امرأة، ومن جهة أخرى، يتم تهميشها وتغيبيها في المجتمع لأنها جزء من مجموعة اجتماعية مُهمَّشة أصلًا
كيف تستطيع هذه الفنانة مواصلة عمليتها الإبداعية في ظل هذه الضغوطات المتعددة؟ هل تصبح مسألة الوقت، والمكان الخاص، والمال من الأولويات الثانوية؟ أم تظل هذه الأمور من الأولويات، ويضاف إليها صراعات أخرى من أجل إنجاح العملية الإبداعية، للحفاظ على حقنا في التعبير وعلى صوتنا؟ كيف يمكننا أن نحافظ على حقنا في التعبير الفني من أجل حقنا في رسم صورتنا بأنفسنا كنساء فنانات مهاجرات من منطقة شمال إفريقيا وغرب آسيا؟
الساعة الآن تشير إلى الثانية عشر ظهرًا من يوم العشرين من فبراير

في نهاية هذه الخواطر والأفكار التي قد تحمل معنى، وقد تكون أيضًا « هستيريات » نسوية وفنية، أود أن أفصح عن استنتاج توصلت إليه كطالبة دكتوراه في تاريخ الفن النسوي وفنانة بصرية مهاجرة منتمية إلى هذه المنطقة. أول شيء يجب أن نفعله للحفاظ على حقنا في مواصلة عمليتنا الإبداعية وكل ما تتطلبه من رفاهية في ظل الظروف والسياقات التي نتعايش فيها حاليًا، وأهم شيء بحسب تجربتي الصغيرة، هو أهمية العمل الجماعي والتحرك كمجموعة والانتماء إلى المجموعة. فرديًا سنكون محكومات بالسحق أو ستكون النجاة فقط فردية وقصيرة المدى. نحن بحاجة إلى التكاتف معًا والعمل جنبًا إلى جنب بمختلف رؤانا الفنية، وهوياتنا الفنية، وغيرها. يجب أن نعمل معًا، جنبًا إلى جنب، من أجل تغيير واقعنا، والحفاظ على حقنا في التعبير والكلام، وتأسيس قاعدة راسخة للأجيال القادمة. من الضروري ألا نشعر بالوحدة أو العزلة أو التقييد. إن الديناميات العالمية، وموازين القوى، وصورة العالم في تغير مستمر. هذا هو وقتنا لخلق وتنظيم والمشاركة في حركة جماعية للفنانات في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا
الساعة الآن تشير إلى الثانية عشر وأربعين دقيقة ظهرًا، الخميس العشرين من فبراير

نُشر هذا النص في العدد الثامن من زين منبوزين، الصادرة عن
Haven for Artists
في لبنان، 2025